بقلم ألاء بن مالك / المضيق
رجل دون حكاية
《مراد المنسي》أو الحكيم،شخصية وحيدة في هذه القرية،هو كذلك بنظر الناس جميعا،ربما لأنه أكثر شخص تراه دون رفقة. يتحدث عنه الصبية و يجاريهم الصغار نقلا عما سمعوه من آبائهم و أمهاتهم عن وحدة هذا الرجل و جنونه في نظرهم؛أو كما يصوره خيالهم.
رجل ليس ككل الرجال:يتحرك بخفية كشبح،قليل الاختلاط مع الآخرين،كثير الصمت،وإذا تحدث مرة كان لاذعا؛حادا وأحيانا سليطا.
لم يحك عن ماضيه الكثير، ولم يحك هو عنه يوما. لذا فلم يعلم عنه أحد شيء،وإذا كان متزوجا أو ظل أعزبا طول العقود الأربعة من عمره،ليس لأنه لم يبح بالأمر يوما بل لكونه غير عالم بالأمر أيضا.
ومثلما الحقيقةتمتزج بالخيال،وتغطي المبالغة على الدقة في معرفة ماضيه .فإن الخوف يلعب دورا مهيمنا على تلك الرغبة المشتعلة في كيانه للبحث عنه. ولكون لا شيء متوقف عن التغير في هذا العالم،حتى الهواء و الناس، فما انفكت تلك الشعلة أن انطفأت وحل محلها ركود غير طبيعي في مشاعره……
زهرة الميلاد
شعرت بذلك الضيق عميقا، إحساس غريب ومؤلم ، لعله يحذرني مما هو قادم
نظرت حولي بهدوء لتحتل ابتسامة باهتة ملامح وجهي المتعبة
لطالما عرفت هذه القرية – “الديبوبية”- التي استمرت لقرون طويلة كما يحكي الاجداد ويعود الاباء لروي قصتها ، بينما تستمر الامهات والاطفال بالاستماع وكأن حياتهم – بل موتهم ايضا -مرتبط بهذه اللحظة؛بهدوئها الشديد ،حتى عند انتصاف الشمس في السماء، حيث يكون الجميع في الحقول يبقى الهدوء هو المسيطر.
هي بين المروج الكثيرة،تنتشر البيوت و المروج المزهرة الغير مستوية كالذباب في ليالي الصيف الحارة،خاليةمن الغوغاء. و هو “علال السالمي”عاد من جديد،الى اصله، هدوءه،قريته،وصندوق ذكرياته،
الى ” الديبوبية” ، وها هي ذكرياته تعود معه،وان لم تهجره يوما.
استمر بالمشي في تلك الأزقة الضيقة المتفرعة، أخذت عيناه تتفرسان ملامح هذه القرية التي كادت تمسها أيادي التحريف غير عالم بسبب شوقه هذا،
أحس و أن شخصا غيره داخله يدفعه الى فعل كلما يفعله، طاقة غريبة احتلته، كأن شخصا آخر لا يعرفه يسكن جسده
من هو هذا الشخص؟ الشخص الذي يرفع يده في الهواء ويحرك شفتيه ببسملة وحوقلة كلما مر بنعش…و هو الشخص نفسه الذي أمره بالعودة أيضا
-من أنت؟ خاطبه بحدة
-تكلم ها؟!
و في تلك اللحظة من التساؤل أدرك أنها نفسه، نفسه هي التي تحركه لفعل ما تريد بناء على ما يريده هو.
لا يعلم لمذا أحس آنذاك بذلك الخذلان الغير مبرر من نفسه، لعلها طباع السوالمة المتأصلة فيه، والتي تمنعه من الانسياق لأي كان، بفرض تلك السيطرة و الحضور المهيبين على الجميع
وصل الى منزلهم القديم،حيث تشارك مع سكانه جميع المشاعر الصبيانية للحياة. لم يتغير شيء؛ لا الأرضية الخشبية المهترءة، ولا صوت صرير الباب، حتى و إن اختلفت تلك الحديقة الفاتنة و ذبلت معظم أزهارها.
توجهت إليها بخطوات حثيثة و تلك الأنا الغريبة تعود مجددا للاستولاء علي ،نظر إلى أزهار النرجس في حديقتها، كونها الوحيدة الصامدة هناك، منذ وفاتها و هجره لذكرياته:
رحمك الله يا أماه!
خاطبها :
_انت يا نرجس ، زهرة، زهرة ندية ، شامخة، أتساءل كثيرا لما أعود إليك كل خريف، أجدك أكثر صمودا.
عاد كلانا لذلك الصمت الغير مريح، تحركت هي بخيلائها المعتاد بفعل نسمه رياح آذار ، أمسك
ذلك الدلو المهترئ مغادرا، لكن.. مهلا …
_أنظري نرجسي …كل ما أراه هو انعكاسي على هذا الماء المتسخ …لاوجود لك .. لا أظنني أحب نفسي حد الغرور ،بل لا أظنني معجبا بنفسي…ولما أفعل ؟
نظرت إلى التربة الجافة والتي كستها الظلال بفعل الغيوم البائسة ،وجهت نظري إلى السماء، بدت حزينة بينما ذرفت دموعها مخلفة آثاها على وجنتي،تعبرة عما لا أستطيع تعبيره ، ذلك الحزن العميق بداخل كل منا ، بدايته سعادة ومفتاحه السعادة ولا نهايه له.
لا اعلم ما ان كانت نهاية قصتي البائسة ليوم ،غدا ، أو إلى الأبد،رغم ان شعورا غائرا يحدثني باقترابها، تشنج جسدي تلقائيا من فكرة الموت، وإن كان حقا
خاطب نفسه :
-ان كان الامس قد ضاع منها ،فبين يديها اليوم ،وان كان اليوم سيترك كل بؤسه لي ويهجرك،فلديها غدا ،لديها إلى ذلك الابد الذي لا أمتلكه
تشكلت غصة في حلقه حاول تجاهلها، فالحقيقه تبقى صعبة المواجهة، مرة ، تأمل ما حوله بادراك المفاجئ، حاول طرده وبشدة،ليس هربا من المواجهة،بل كي لا يغتال اخر بقايا الامل فيه ؛ وان كان ذلك لا يبرر شيئا
-ليس هربا !…لا!؟
اردف بانفاس متسارعه ليكمل بعدها بهدوء:
-كل ما في الامر انني ادركت انا مايبقي الانسان مستقرا هو محاصرته بين المتناقضات،كالحياة والموت ،السعادة والحزن ، الحرية والسجن ، ولكن يبقى اكثر ما يهابه …الجنه والنار ؛ ليس لفكره العذاب نفسها ،انما لما ترسخ لديهم من تحفظ اتجاه ذلك…
صمت مفكرا، إذن… هل فكرة العذاب بعد الموت هي ما تخيفه و ليس الموت نفسه، لا!… ربما… لا يمكن الجزم حقيقة، إلا أنه قطعا يمتلك مخاوف كبيرة من هذا الأمر، أكبر بكثير مما ظنها يوما…
نهض متخلصا من كل ما راوده من حقائق متأخرة
لا حواجز ولا حدود ، أخذ يمشي فوق المرج بهدوء ،رآها مجددا ، تنظر له من بعيد بعمق، تلاقت نظراتهما للحظات قليلة فجرت بركان الحنين الخامد منذ موتها، عاد بسرعة للحديقة وفي لحظة غضب أخذ يقطع كل أزهار النرجس قطعا صغيرة لاعنا كل شيء
اقشعر جسده من برودة الجو ليعود إلى وعيه، أعاد نظره إليها آملا إيجادها، لكنها رحلت، وإن كان ما رآه سرابا لا إلا… لما لا يدوم هذا السراب أكثر؟!
شعر بالذنب لرأيته لتلك الأزهار كلها مقطعة من حوله :
_اين ذهبت نرجسيتك يا نرجس؟ أين؟ كل ذلك كان كذبا ؟!
صرخ بجنون بعدما عادت له نزعة الغضب المفاجئ ، مدركا تشابههما، فهما كالأزهار إذا سقيتها لن تذبل، لكن إذا ما أغلقت عليها بيديك طويلا، تتفتت فيهما إلى أن تترك آثارها على يدك، وآنذاك لن تستطيع استرجاعها مهما فعلت
عاد سرابها أمامي مجددا، لعلها علمت ما أنا مقدم عليه، ابتسم لها مودعا، تساقت عبارات الحسرة من مقلتي لتتحرك نحوي بسرعة كدت لا ألحظها
لكن….فات الأوان
….
وقفت على حافة المرج …. ووقفت هي أمامي ، أمسكت بنرجسي الأخيرة ، ليهوي بي المصير إلى تلك النهاية مع زهرة ميلاد آذار الأخيرة….
مذكرات ميت
كان الصمت ،القمر وهو، جمال المساوي ، في هذه الهوماء وحيداً. تأمل السماء و النجوم و استنشق الهواء بقوه ليتخلخل فيه هذا الأخير محررا نسبة كبيرة من الأدرينالين لطالما خزنها. شعر أنه يريد أن يفعل شيئا غير عادي .قال بصوت الاقرب الى الحدة والثورة :
_ويلك يا ليلة أظلم من بهيم الليل. وما ويلي لك سوى لحزني فيك !
رفع البندقيه باتجاه السماء ،نحو القمر، واطلق ،ذوت الطلقه فخدش الصمت، وملأت رائحتها رئتي جمال ،خرجت طلقه أخرى فارغه بقوه لتعبق في أنفه رائحه البارود أكثر وأكثر ،ضحك بخفه مستمتعا بهذه اللعبه الغامضة والمثيرة،دفع بندقيته على البساط العشبي بزهو،فائضا في تلك اللحظة بمشاعر حادة وسريعة
توقف لحظه ….ثم أضاف وهو يضحك مجددا بصوت عالي
_وما لحزني فيك سبب !
وصمت من جديد ،كان جمال يكلم نفسه، يكلم الآخرين، وفي غمرة تلك المشاعر المختلطة أحس أن كل شيء حوله يتحرك بقوة، حتى القمر بدى له مختلفا عن الأيام السابقة، وأحس أن لسعة البرد المعتادة تعطيه قوه وثقه غريبتين، انتصب واقفا، مجاريا ومستجيبا إلى التفجير الذي يملأ روحه
استمر هذا التفجير الذي لملم بعضا مما حطمه الزمن من أرز الليل إلى أمج النهار،وحين استمر الصمت ، هدأ يتأمل الروعة في المسألة، وجد نفسه أمامها كالطفل الصغير الأبله،بقي يحدق بالسماء التي ارتدت رداء الصباح ،بدت كامرأة ناضجه الانوثة وهو غير قادر على الربط بين ما يراه وبين ذاته ،كان باندفاع و تهور وجنون، فرحا، ولكنه فرح لا يعلم ماذا يفعل به أو لماذا اعتراه أصلا…كاد الصباح يمر مروره الأزلي الخالد ؛ إلى أن بدأت الحركة في الغابة مجدداً، بنفس التوتر، التنوع والحركة، بينما لم يمنع جسده من الانتفاض متأهبا لعمله، متناسيا هذه الليلة الأسطورية،ليس لحقيقة الوحدة فيها فقط إنما لتلك السعادة المفاجئة التي اخترقته لأسباب يجهلها .
أخذ يمشي ببطء و بخطوات حذرة كعادته ؛في حالة تأهب اختفى جسده من بين الاشجار الكثيفة التي تمنع الرؤية لأكثر من عدة أمتار، إذ هاهو يتسلل منتظراً طريدته الأولى منذ زمن.
مرت الدقائق بصمت صاحبه هدوء الغابة المفاجئ ، تلته ساعات النهار و برودة الليل،ولم تقبل الطريدة لتؤنس وحدته ،نظره إلى النار المشتعلة والتي تواسيه مستسلما،ولعل في محاولته للتسلل أدركت الغابة خطته و أحبطتها !
لم يكن إحباط خطته حزينا أكثر مما كان متعودا عليه ،ولو أنه لم يسلم من الخذلان الذي صاحبه طوال الليل وهو يكتب مذكراته، من جديد،ليوم آخر متشبع بالوحدة،دون أي نتيجة
استمرتالوحدة لعده ايام بعد ذلك واكبتها كتابة المذكرات التي لم تزد يومه إلا كآبة، ولو لم تغادر تلك الليلة عقله برائحتها ، أحاسيسها، تناقضها ،و وحدتها ، إلا أنه أحس بشيء تكسر داخله من بعضها جعله متناقضا و بشدة، وخائفا من مواجهة الحقيقة، أو حتى طريدته،واصبح كل ما يستطيع فعله هو مراقبتها من مكانه القريب البعيد ، حتى وهو يعيد قراءتها مستعيدا كل تلك الوحدة من جديد:
مذكرتي العزيزة:
اليوم أكتب لنفسي غدا ، أكتب أخطاء قديمه وحقائق قديمه ،اكتب لأول مره عما يخالجني لعلها الحقيقه ،ادور مع الأيام في نفس الدوائر المستديرة و الا متناهيه المسماة بدورة الحياة ،احاول الإستمرار، استمرار أفضل وصفه بالبقاء للأذكى فنحن لم نعد في زمن تتحكم به القوه بل الذكاء ، فالذكاء فن يجمع كل الفنون ، فن التجاهل ،فن الصمت ، وفن الاستمرار …
مذكرتي العزيزة:
لا أرغب في شيء غير تلك السعاده الناتجة عن أحاسيس حقيقية، أفكر لأدرك أو أفكر لأخدع ، إليك مذكرتي، إليك نفسي، أنا غدا ابتسمي إلى الأبد ولكن ابكي في النهاية، نهايه لم تعلمي وقتها لكن علمت اقترابها ، زيفي وتزيفي ، عيشي و تعايشي، لكن تذكري! الأمر برمته حول البقاء مزيفا وسعيدا ،سعادة وزيف مؤقتين ، ونصيحة مؤقتة…
مذكرتي العزيزة:
اكتب لي مجددا غير عالم بما أقوله، لعلها كانت حقا نصيحه مزيفو ،مؤقتة وخاطئة ، إليك، أنا غداً ،لا تزيفي ولا تتزيفي، عيشي ولا تتعايشي، ابتسمي وابكي، نعم عزيزتي ، تناقضي …
انهيت قراءه هذه الفقره لاغلق المذكرات المهترئه متنهدا بارتجاف، لا أعلم، لعلها الحقيقه التي صفعتني ، حقيقه اجهلها، بدا لي الأمر غريبا ، حقيقة واضحه سابقا أدركت لتوي انها لم تكن الا سرابا ، لطالما كنت صامتا ، كانت هوايتي ان أصمت دائما ، لكنه في الوحدة المخزية التي أدركتها للتو كنت أبحث أبدا عن أحلام بديلة …..
عدت أفتحه مجددا أحاول قراءه المزيد، أحاول استكشاف شخص ظننته شفافا، لكن لم تكن شفافيته سوى غطاء بئر عميق جدا من الوحده